صالح المسعودي يكتب :بين “المعاش والممات”

صالح المسعودي

مازالت كلمات صديق والدي تتردد في أذني حتى اليوم ، فقد كان شخصا وقورا و يعمل في جهة معروفة ولها وزنها على مستوى الدولة ، لكن الرجل خرج على المعاش عند بلوغه السن القانونية ، وبما أنه صديق عزيز لوالدي كانت وجهته الأولى بعد خروجه للمعاش هي زيارتنا ، فبادرته بكلمات بسيطة كنوع من التخفيف عنه فقد تأصلت عندي فكرة قديمة عن الذين يخرجون إلى المعاش وما يعانيه هؤلاء في بقية حياتهم من جحود في كل شيء بداية من انخفاض راتب لا يكاد يأتي بالعلاج لهذا المسكين وصولاً لجحود بعض الأبناء ( إلا من رحم ربي )

وأعود للقائي بصديق والدي فقد أردت كما ذكرت التخفيف عنه فقلت له ( متزعلش يا مصطفى بيه ) فرد بشكل أذهلني وقال ( أزعل من أيه يا ولد دا أنا خرجت من المماتِ إلى المعاش ) فبادرته بكلماتي المعهودة ( وكيف كان ذلك ) على طريقة كتاب ( كليلة ودمنة ) قال ( يا أبني الوظيفة عبارة عن موت بطيء ) وضرب لي مثلاً في غاية الغرابة حيث قال ( شوف يا ابني جواب التعيين ده زى يوم ما ينزل الملك وأنت في بطن أمك ( مع فارق التشبيه طبعاً )

لكن الرجل استطرد مكملاً حديثه ( الملك يا ابني يكتب ثلاث أمور (عمرك ورزقك وشقي أم سعيد) أما جواب التعيين يا ولدي فيفعل شيء قريب من هذا ولكن مع الفارق طبعاً فهو يسجل لك ميعاد خروجك على المعاش وثانياً يسجل لك مرتبك من بداية التعيين وبمقدورك ساعتها أن تحسب زياداتك السنوية حتى يكون بإمكانك حساب على أي مبلغ ستخرج الى المعاش ، ولكن أنت في الثالثة بالتأكيد ( شقي ) طالما أنت من محدودي الدخل فبأي مرتب أنت شقي قَل أو كَثُر هذا المرتب فأبواب إنفاقه تنتظره بحسب وضعك الاجتماعي )

ولكن كررت سؤالي له بكيفية خروجه من الممات إلى المعاش فأجابني ( كما قلت لك يا ولدي الوظيفة هي موت بطيء فقد حرمتني التزاور مع أهلي وصلة رحمي لانشغالي الدائم في العمل وثقل المسؤوليات أما الآن فأنا حر طليق أتزاور مع إخوتي وأصدقائي وأفكر في مشروع يشغل وقتي وأضع فيه خبراتي الحياتية وأعمل على زيادة دخلي حتى لا تجبرني الظروف في آخر عمري على الاحتياج للغير لأي سبب من الأسباب فأنا في سن الستين وهو بالنسبة لي ليس نهاية الطريق بل أحس بأنني بإمكاني العطاء سنوات وسنوات

أنا أعلم عزيزي القارئ المحترم بأنني أطلت عليك في سردي لتلك القصة الهامة من وجهة نظري فقد خرجت منها برسالتين في غاية الأهمية أولهما أنها تهم الكثير من تلك الفئة المجتمعية التي خرجت على المعاش ومعظمهم تتقطع بهم السبل بكل ما تعني تلك الكلمات من سوء فقد انخفض الراتب إلى أقل من الربع تقريباً ( ولا أدري كيف فكر المشرع في هذا التقدير الظالم لتلك الفئة ) فهذه الفترة العمرية على وجه الخصوص تحتاج للرعاية مصداقاً لقول نبينا صلى الله عليه وسلم (مازالت أمتي بخير ما وقر صغيرها كبيرها ( الحديث ) ومن أهم مظاهر التوقير أن نحترم آدميته فلا نتركه فريسة المرض والفقر بعدما فقد شبابه وصحته في خدمة وطنه فكان لزاماً على أهل القرار وأهل التشريع أن يُنزِلوا هؤلاء أفضل المنازل حتى يُطمئنوا الذين لايزالون في الوظيفة أن كرامتكم محفوظة في حالة خروجكم الى المعاش بدلاً من دفعهم للاستفادة من مناصبهم للتربح منها في محاولة فاشلة وخبيثة لتأمين مستقبلهم ، فالعالم المتحضر يضع تلك الفئة في أفضل المنازل وتصبح متطلباتهم في مجملها بشكل مجاني يقيناً منهم بأهمية تلك المعاملة الكريمة

والرسالة الأخرى التي يجب أن تصل لشبابنا بأن عليهم أن يتركوا تلك الأفكار التي توارثناها بالقول المعهود ( إن فاتك الميري أتمرغ في ترابه ) فهذا الأمر قتل لأحلام وحياة الكثيرين من أهل الفكر وأهل الحلم ، واقرأ تاريخ كل رجال الأعمال على مستوى العالم وأصحاب رؤوس الأموال فمعظمهم بدأ بحلم ومشروع صغير وكتب الله له النجاح بسبب إصراره على النجاح والأمثلة على ذلك كثيرة ، وأنا هنا لا أمنعك من الوظيفة ولكن عليك أن تفكر أكثر من مرة بأن تلك الوظيفة هي موت بطيء في كل شيء بداية من طموحاتك وأحلامك وصولاً لسرقة عمرك الذي يضيع بدون دراية منك ليأتيك السن القانوني لتخرج من هذه الدائرة المفرغة في غاية الأسف على شبابك وأحلامك لتقول نفس قول صديق والدي ( لقد خرجت من المماتِ إلى المعاش )

                                                          صالح المسعودي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى