الدكتور سليمان عباس البياضي يكتب شهر رمضان في مرآة التاريخ العثماني

كان العثمانيون يستقبلون شهر القرآن والصيام، شهر المغفرة بالفرح والسرور لأنه الشهر التي تُفتّح أبواب الجِنان وتُغلّق أبواب النيران، فيه ليلة القدر التي شرُفت فيها سماء الدنيا بنزول القرآن، ليلة تفوق في فضلها 83 عامًا من الطاعات والعبادات، فهل هناك في كل الشهور من يُشبه رمضان في كل هذه الخصال؟!
ولو أبحرنا في نهر التاريخ لنشاهد كيف كان الناس يعيشون الشهر الفضيل في عهود دول الإسلام، لوجدنا عادات واحتفالات تتشابه في جوانب وتختلف في أخرى، فأموية وعباسية ومملوكية وعثمانية، حملت كل فترة منهم ملامح وعادات ومظاهر رمضانية اتسمت بالخصوصية والبهجة والفرح والسرور، هذه الخصوصية التي نحاول في هذا المقال عرضها بما خُص به العهد العثماني من مظاهر وعادات اختلفت عن العهود الإسلامية التي سبقته.
والمظاهر تتشابه في مدن الدولة الكبيرة، مع وجود اختلافات قائمة بينهم، إلا أنه من الممكن أن نقول بأن هذه العادات كما وجدت في إسطنبول، فقد وجدت كذلك في القاهرة، وحلب، وسراييڤو. وكان قاضي إسطنبول يُرسل العديد من الخبراء إلى مناطق مختلفة لاستطلاع ظهور الهلال، وفي حالة ظهوره كان المنادون يسيرون في الشوارع وينادون بأن الهلال قد ظهر، كما كان يتم تعليق شبكة الأضواء بين المساجد (فيما عُرف باسم الماهيه، وهو ما سنتحدث عنه لاحقًا) كذلك لتنبيه الناس بأن الشهر قد دخل، وكان من نصيب أول شخص استطاع أن يرى هلال رمضان هدايا كثيرة تُخصص له من الدولة؛ لأنه أول من بشّر بدخول الشهر الفضيل.
وكان لشهر رمضان في قصر السلطان العثماني مظاهر وعادات أخرى، فبداية كان السلطان يُصدر وثيقة خاصة بالشهر من عدة نقاط لتنبيه الناس على مراعاة بعض القواعد التي يتم تطبيقها بحرص، فقبل حلول الشهر بخمسة عشر يومًا كان يأمر بتشكيل هيئة لمراقبة الأغذية في الأسواق وتنظيم أسعارها، كما كان يقوم بنفسه باختيار نوعية القمح الذي سيُصنع منه الخبز للناس، وتحديد وزنه وكمية الملح التي تضاف إليه، وإذا نال القمح بعد طهيه خبزًا إعجاب السلطان وأهل الخبرة في القصر، يأمر بأن تبدأ الأفران بخبزه وبيعه للناس.
كما كان من ضمن التنبيهات الموجودة بهذه الوثيقة ضرورة أن يقوم الوعّاظ بتذكير الناس بصلاة الجماعة في المساجد، والمنادون بتنبيه الأهالي في الشوارع، بألا يزور أحد منزلًا دون إخبار صاحبه أو دون دعوته، وألا يتناول أحد الأطعمة والمشروبات في الشوارع في نهار رمضان، وأن يدعو الناس أثناء صيامهم وفي صلواتهم بدوام بقاء الدولة العثمانية.
وأما رئيس الفلكيين (رئيس من يشتغلون بـالفلك في الدولة) في القصر السلطاني فيقوم بتحضير إمساكية رمضان قبل حلول الشهر المبارك بخمسة عشر يومًا، أو قبل انتهاء شعبان بعشرة أيام، وكان يقوم بتقديم الإمساكية أولًا إلى السلطان والصدر اﻷعظم (رئيس الوزراء)، ثم إلى بقية الأشخاص المهمين من رجال الدولة.
وكان استقبال الشهر يتم ببهجة كبيرة في القصر، وبصحبة برقيات تهنئة إلى السلطان من سفراء الدول الأجنبية، كما كان يتم دعوة عامة المسلمين وغير المسلمين إلى الإفطار في القصر السلطاني؛ من أجل إرساء الألفة بين المسلم وغير المسلم. أما الأطعمة فكان يتم توزيع الوجبات المجانية على جميع الضيوف طوال شهر رمضان حتى ليلة القدر، وكان السلطان ورجال الدولة يأمرون بنحر الأضاحي المختلفة في الأماكن العامة والساحات الواسعة أو على أبواب إسطنبول، مع الأمر بتوزيع هذه اللحوم على الناس خاصة الفقراء منهم وذوي الحاجة.
وإذا انتقلنا إلى العبادات والطاعات في القصر، فكانت تظهر في إقامة صلاة التراويح بحضور السلطان، وفي ليلة القدر نجد السلطان والوزراء ورجال الدولة يقيمون صلاة هذه الليلة المباركة في جامع آيا صوفيا خاصة، ويأمرون بإضاءة الأنوار والمشكاوات الملونة بشكل كبير وواسع في الطرقات، وفي ساحة ميدان الطوبخانة بإسطنبول. وفي القرن الثامن عشر عام 1759م (1172هـ) استحدث السلطان مصطفى الثالث (حكم من 1757 حتى 1774م) (1170 – 1188هـ) في البلاط العثماني “مدرسة قرآنية” لحضور دروس في تفسير القرآن طيلة الشهر المبارك بحضور السلطان، الذي يجلس ليستمع إلى تفسير الآيات من علماء عصره، خاصة من تفسيرالبيضاوي الذي كان يُفضله علماء الدولة الأحناف، وهو اﻷمر الذي استمر حتى نهاية الدولة.
ومن العادات الرمضانية الخاصة التي ميزت العهد العثماني في قصر الحكم قصر “طوپ قابي”، هو زيارة السلطان لجناح يُعرف باسم جناح “الأمانات المقدسة” (وهو جزء من القصر يتم فيه الاحتفاظ بأغراض تعود لسيدنا مُحمد صل الله عليه وسلم وصحابته) وذلك في يوم الثاني عشر أو الثالث عشر من رمضان، فكان يتم تنظيف غرفة تُعرف باسم غرفة “البُردة الشريفة” التي تحتوي على أغراض النبي عليه الصلاة والسلام مثل: بُردته، رايته الشريفة، خُصلات من لحيته بكل احترام بالإسفنج وماء الورد وبمشاركة شخصية من السلطان. كما كان يتم الاستعداد جيدًا، فبعد يومين يحل يوم الخامس عشر من رمضان، اليوم الذي تتم فيه الزيارة الرسمية من السلطان ومن يدعوه للذهاب إلى جناح “الأمانات المقدسة” للقيام بزيارة إلى الغرفة المحفوظ بها بُردة النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك بمشاركة كبار موظفي ورجال الدولة وآخرين يبعث السلطان لهم ببرقيات خاصة لنيل شرف هذه الزيارة الرسمية التي تتم وفق احتفال وعادات معينة، مع تحديد وقت معين للحضور.
وأما رجال الدولة والمسئولين الكبار في الحكومة العثمانية، فكانوا يتسابقون في رمضان لتقديم أفضل ما لديهم لعامة الناس، فأبواب منازلهم وقصورهم تُفتح ليفطر العامة وقت المغرب على مقاعد مخصصة لهم، كما كان يُقدم لهم بعد الانتهاء من الطعام هدية، وكانت تسمى بأجر الأسنان؛ بسبب إجابة الناس للدعوة مما يُكسب صاحب الدعوة الأجر والثواب.
•أما أعمال الخير الأخرى التي نجد رجال الدولة يقومون بها فتتمثل في بتوزيع هدايا قيّمة وغالية من خزاناتهِم على خادميهم والعاملين لديهم، وقد ذكر لنا الرحالة العثماني الشهير أوليا چلبي عن الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) ملك أحمد پاشا في عهد السلطان محمد الرابع (حكم من 1648 حتى 1687م) (1058 – 1098هـ) أنه كان يقوم بتوزيع أشياء غالية الثمن ذات قيمة عالية من خزانته الخاصة على خُدَّامه والعاملين لديه في رمضان مثل: الملابس الجديدة، أوعية للطعام، أسلحة، دروع، بنادق مرصعة بالجواهر، سيوف، فراء السمور، مسابح مُرجانية، في مقابل أن يدعو له ويذكروه في صلواتهم. وقد كان هذا الوزير في كل مساء من يوم الإثنين والجمعة طوال الشهر يفتح أبواب منزله لعامة الناس لتقديم الأطعمة، وعصير الفواكه، والحلويات، والفستق واللوز، وذلك أثناء جلوسهم للاستماع إلى تلاوات من القرآن الكريم. ومن أهم دعوات الإفطار دعوة الصدر الأعظم رجال الدولة للإفطار على مائدته، ولم تكن هذه الدعوة تُقام إلا في اليوم الرابع من شهر رمضان؛ كي يُفطر رجال الدولة مع عائلاتهم في الأيام الأولى، وكان العلماء من أوائل المدعوين لهذه المائدة، التي كانت تنتهي في اليوم الرابع والعشرين من الشهر.
*وتؤكد المستشرقة والكاتبة الإنگليزية دورينا نيڤ التي قضت 26 عامًا من حياتها في إسطنبول على استمرار هذه العادات في رمضان بالمدينة حتى نهايات القرن التاسع عشر في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (حكم من 1876 حتى 1909م) (1293 – 1327هـ) بقولها:
“وحدث أن قمنا بزيارة إلى الأسواق أثناء رمضان، وفي هذا الموسم نجد أن الأتراك يصومون طوال النهار، ويحتفلون طوال الليل ..، وكان أفراد الطبقة الثرية يضطرون إلى فتح أبواب منازلهم طوال الشهر لإطعام أي شخص بحاجة إلى الضيافة من فترة غروب الشمس وحتى بزوغ فجر اليوم الجديد”.والعادات الاجتماعية في إسطنبول ومدن الدولة الأخرى أما مجتمع المسلمين الذين يعيشون على الأراضي العثمانية، فكانوا يستعدون قبل قدوم شهر رمضان بأسابيع، بتنظيف البيوت بشكل كامل، كما يتم التحضير لإعداد أطعمة وأنواع مختلفة من المخبوزات خاصة بالشهر. وعند حلول الشهر ومن أول أيامه، كانت موائد “الإفطار” تُزين بأنواع مختلفة من الأطعمة والمشروبات، التي نجدها في المنازل الخاصة كما نجدها على موائد الإفطار الخيرية الجماعية التي يقيمها الأعيان ورجال الدولة، حيث يتم استضافة الفقراء والشحاذين والغرباء وغيرهم لتناول الطعام، وتوزيع الصدقات والهدايا عليهم.
•وإذا نظرنا إلى يوم إسطنبول في رمضان نجد أن محلات ومقاهي المدينة كلها مغلقة في الصباح قبل ميعاد الإفطار، في مقابل عمل هذه المحلات من بعد الإفطار وحتى آذان الفجر على ضوء المصابيح، وإذا رغب أحد المارة في الشوارع أن يشرب عصيرًا أو شرباتًا، فما عليه إلا أن يذهب إلى سبيل من الأسبلة العامة التي يؤمر بأن تُملء بالشربات و العصائر بدلًا من الماء طوال الشهر الكريم.
أما الألوان والزينة وعلامات البهجة في عاصمة الدولة، فنجدها مُتجسدة بصورة رئيسية فيما عُرف في التاريخ العثماني باسم “الماهيه Mahya”، وهي الزينة التي تُعلق ما بين مآذن الجوامع الكبيرة بشبكات من المصابيح الزيتية على شكل جملة أو رمز يرمز إلى الشهر الفضيل، مثل كلمة “بسم الله”، و”ما شاء الله”، و”ليلة القدر”، وكلمة “الفراق” عند نهاية الشهر. ولا نعرف بدقة متى تم البدء في استخدام الماهيه، ولكننا نرى في سيرة السلطان مراد الثالث في أواخر القرن السادس عشر (حكم من 1574 حتى 1597م) (982 – 1006هـ) أن هناك ذكر للماهيه، كما ذَكر وصف للماهيه المبعوث الألماني إلى إسطنبول سالومون شڤايجر عام 1578م (986هـ).
وتقول جوليا باردوي الرحالة والمؤرخة والأديبة الإنگليزية عند زيارتها لإسطنبول في ثلاثينيات القرن التاسع عشر عن أضواء المدينة في رمضان: “إن الأنوار في إسطنبول لا تشبه الأضواء في أي عاصمة أوروپية أخرى”.
•أما العبادات وممارسة الشعائر الدينية فلا تظهر كما تظهر في شهر رمضان، فهو شهرها المخصص، فعلى امتداد أراضي الدولة تجد العلماء والفقهاء يعملون على تلاوة القرآن في الجوامع والمساجد طوال الشهر حتى قدوم عيد الفطر المبارك. ونجد أن المسلمين يملؤون المساجد أثناء الصلوات ويجلسون للاستماع إلى الدروس الدينية.
•أما تناول السحور فكانت له عادات مميزة وجميلة، فنجد مدافع الحواضر الكبرى في الدولة مثل إسطنبول والقاهرة، تنطلق بعد تجاوز الساعة منتصف الليل؛ لتنبيه الناس بأن ميعاد تناول وجبة “السحور” قد بدأ وذلك حتى أذان الفجر، أما في المدن الصغيرة والقرى فكان “المسحراتي” يمر على المنازل بآلات التنبيه لإيقاظ المسلمين لتناول السحور.
وقبل انقضاء وقت السحور بقليل، يستمع الناس إلى الصلوات على النبي صل الله عليه وسلم من مآذن المساجد كمقدمة قبل أذان الفجر، فيكون هذا بمثابة تنبيه لمن يأكل بأن وقت “الإمساك” عن الطعام قد شارف على الدخول، ثم يتم إطلاق مدفع “الإمساك” للتأكيد على الناس بأن وقت الإمساك قد حان والامتناع عن الطعام قد بدأ، فيبدأ المسلمون بعد سماع الأذان بالجهر بنية صيامهم هذا اليوم الجديد، وهو أمر يختلف باختلاف المذهب الفقهي الذي يتبعه كل فرد عن الآخر من حيث الجهر أو السرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى