أَحْمَدُ الطَّنطاوي يَكْتُبُ:اللُّجُوءَ إِلَى اللَّهِ

احمد الطنطاوي

إن اللجوء إلى الله تعالى هو سلوى الحزين وأمان الخائف وعز الذليل وقوة الضعيف وغنى الفقير، وهو الجاه الذي لا ينقطع، ‌فمن لجأ لغيره ذل، ومن سأل غيره ضل، ومن لجأ إلى الله فلا ذل ولا ضل.

ولقد أنعم الله علينا إذ أرسل إلينا رسولا علمنا دوام الصلة بالله واللجوء إليه، ولا يكون ذلك إلا بالدعاء، قال ﷺ: “الدعاء هو العبادة” ثم تلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ومن نظر في الآية وجد أن الله أمرنا بالدعاء ووعدنا بالإجابة، وتوعد من يستكبر عن الدعاء بالعذاب الشديد يوم القيامة ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي ‌أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ تنبيها لعباده بفضل الدعاء.

ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أدعية كثيرة دعا بها أناس ما بين خائف ومهزوم ومكروب ومحروم ومظلوم، أناس لجأوا إلى الله بالدعاء الخالص، فكانت الإجابة المباشرة من الله القريب المجيب.
والجميل أن كل دعاء منها وراءه حكاية، وفي الحكاية عبر ومواعظ، والأجمل أن استجابة الدعاء جاءت مقرونة بفاء العاقبة والتي تدل على سرعة الاستجابة.

وأول دعاء معنا هو قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ ‌الْكَافِرِينَ﴾

وأما القصة وراءه فهي أن بني إسرائيل بعد وفاة موسى عليه السلام بفترة من الزمان ظلوا على دين موسى متبعين هديه ماشين على طريق الاستقامة، ثم طال عليهم الأمد فقست قلوبهم ففسقوا وتركوا دينهم فأحدثوا وبدلوا، وقد كان لبني إسرائيل كثرة من الأنبياء يتتابعون في تاريخهم الطويل لعنادهم وفسادهم ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٦) وَآتَيْنَاهُمْ ‌بَيِّنَاتٍ ‌مِنَ ‌الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧)﴾.

فضلهم الله تعالى على العالمين بكثرة الأنبياء فيهم و جعلهم ملوكا وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، ما داموا على الحق، (وآتيناهم بينات من الأمر) جاءتهم الآيات بينة واضحة فبدوا واختلفوا بعدما جاءهم العلم بغيا وفسادا وهم يعلمون أنها الحق، وهذه هي دورة حياة بني إسرائيل، إن يؤمنوا ويتقوا يجعلهم الله أسيادا أعزاء، وإن يحرفوا ويبدلوا جعلهم عبيدا أذلاء، ثم يرسل لهؤلاء الأذلاء نبيا من أنفسهم فيتّبعوه فيعزهم الله، وتستمر الدورة.

وقد انقضت بعد وفاه موسى عليه السلام فترة من الزمان انقطع فيها الأنبياء فطال على بني إسرائيل فيها الأمد فكانت مدة كفيلة بأن تقسو قلوبهم حتى كفروا بالله، فسلط الله تعالى عليهم قوما أشداء يسومونهم سوء العذاب، فقتلوهم قتلا شديدا وأسروا منهم كثيرا وأخرجوهم من ديارهم، وأخذو منهم تابوتا كان فيهم من قديم الزمان، وكان يحوي إرثا – لا نعلم ما هو – تركه آل موسى وآل هرون.

والآن وقد أرسل الله فيهم نبيا – لا ندري ما اسمه ولن ينفعنا بشيء أن نعرف اسمه – وكأنما الإيمان هب في صدورهم فجأة وشعروا أنهم أهل دين وعقيدة، وأعداءهم أهل كفر وباطل، وأرادوا أن يستعيدوا سيادتهم، وعلموا أن السبيل الوحيد لذلك هو القتال في سبيل الله، فذهبوا إلى نبيهم، وقالوا له ادع الله أن يجعل لنا ملكا نتبعه ونجتمع حوله لنقاتل في سبيل الله.

قال تعالى: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى) والملأ من القوم أشرافهم وخيرتهم، قالوا لنبيهم: (ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله)، فأراد نبيهم أن يتأكد من صحة نيتهم وعزيمتهم، فهو يعلم أنه لا كلمة لهم ولا عد ويعلم أنهم قتلوا من قبله كثيرا من الأنبياء، فقال لهم:(قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا) سأدعو الله فإن استجاب وأرسل لكم ملكا فلا سبيل للرجوع، فهل أنتم جادّون في ما تطلبون؟؟!! فاشتعلت فيهم الحماسة وقالوا: لم لا؟!!! وعرضوا لنبيهم أسبابا تؤكد صحة عزمهم (قالو وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبناءنا) قتلوا منا !! وأسروا منا !! وأخرجونا من ديارنا !! فلم لا نقاتل ؟؟!! فيستجيب الله تعالى لدعاء نبيهم ويرسل لهم ملكا ويكتب عليهم القتال، فيظهر ظلمهم وبغيهم (فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين) ظلموا أنفسهم وظلموا نبيهم، وظل منهم مع نبيهم قلة مؤمنة.

(وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) وهنا يظهر تنتهم وعنادهم مع أنبياءهم (قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال) كيف لطالوتَ أن يكون ملكا علينا؟!! فهو ليس فينا ذو نسب فيكون حقيقا بالرياسة، ولا صاحب مال فنتغاضى عن نسبه، فيرد عليهم نبيهم (قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم) طالوت أرجحكم عقلا وأقواكم جسدا ويكفيكم أن الله اختاره واعلموا أن الملك لله يؤتيه من يشاء.

فهل يكتفي بذلك بنوا إسرائيل ويمتثلون لأمر الله؟! لا. بل سألو نبيهم أن يأتيهم بآية من عند الله تثبت ملك طالوت.! ( وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) وأما السكينة فلا ندري كنهها، وأما ما ترك موسى وهارون فهو شيء ورثه القوم بعدهما ولا ندري ما هو، ما نعلمه أن الملائكة حملته وعادت به إليهم بعدما أخذ منهم زمنا، وليست العبرة في حكايتنا أن نعرف من نبيهم وماذا في التابوت أو في أي زمن كانوا، ولكن العبرة هنا في فعل طالوت وجنوده.

وأخيرا !! أقر القوم بملك طالوت عليهم، وجهزوا جيشا – ممن لم ينقضوا عهدهم مع نبيهم وتولَّوا – بقيادة طالوت وخرجوا لجالوت وجنوده، ولكن طالوت كان قائدا حكيما – لا عجب وقد اختاره الله – أراد أن يتأكد من صدق قومه وعزيمتهم، وهو يعلم أنهم أقل عددا وعدة من جالوت، ويعلم أن جيشه – أو من بقي منه – من أمّة مغلوبة اعتادت الهزيمة والذل والخضوع والانكسار، فاختار أن يبتليهم بالعطش ليعلم المؤمن حقا ممن ينقلب على عقبيه ( فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني) من شرب منكم فلْيتخلف عني ويرجع (ومن لم يطعمه فإنه مني) أي ومن أطاعني فلم شرب فإنه معي، وأباح لهم أن يغترفوا بيدهم غرفة واحدة (إلا من اغترف غرفة بيده) وما أطاعه إلا قليل، وصدق ظنه فيهم إذ لم يجد لهم عزما (فشربوا منه إلا قليلا منهم).

(فلما جاوزه هو والذين معه) عبر طالوت النهر مع جنوده أو بالأحرى من بقي من جنوده، فلم يبق معه إلا ثلاثمائة وعشر مقاتل بعدد الذين كانوا مع رسول الله ﷺ يوم بدر، وهم الآن قلة في العدد والعدة وفوق ذلك منهكون من شدة العطش، فقال بعض منهم (قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده)، (قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله) وهم المؤمنون حقا، والظن هنا بمعنى اليقين، فهم على يقين أنهم إن قتلوا فشهداء، وإن انتصروا فلهم أجر عظيم (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) وكم هنا خبرية تفيد الكثرة، بمعنى أنه قد حدث كثيرا أن تنتصر القلة بفضل الله، والله يؤيد بنصره من يشاء.

(ولما برزوا لجالوت وجنوده) هنا لمسة بيانية في قوله “برزوا”، إذ معناها أنهم ظهروا للقوم وانكشفوا لهم على مكان عال، فلم يباغتوهم حتى وإنما دخلوا عليهم من الأمام، فلا مفر ولا مهرب وقد انكشفوا، إما الشهادة وإما النصر!!! فما كان من هؤلاء المؤمنين إلا أنهم تضرعوا لله تعالى بقلوب خالصة (قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا) صُبَّ علينا صبرا (وثبت أقدامنا) ارزقنا القوة – إذ ليس المراد من تثبيت الأقدام ألا تتحرك من مكانها وإنما يراد بها القوة والشجاعة – وانزع من قلوبنا الرعب وألقه في قلوب أعدائنا، (وانصرنا على القوم الكافرين).

واستجاب لهم (فهزموهم بإذن الله)!!!!! (وقتل داوود جالوت) وكان حينها شابا صغير السن (وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء) ثم اصطفاه ربنا ليرث النبوة بعد نبي بني إسرائيل، والملك بعد طالوت، وورثهما ولده سليمان عليهما السلام من بعده، وعاش بعدها بنو إسرائيل أسيادا في الأرض في عهد داوود وسليمان، أو كما يسمى: “العصر الذهبي لبني إسرائيل”، جزاء لهم على إيمانهم بالله، بعد ما كانوا فيه من الضلالة والانتكاس.
صدقوا الله فصدقهم، وجزاهم خيرا لأنهم آمنوا، وكذلك حال كل من يلجأ إلى الله، ويرجع إليه ويتوكل عليه بصدق ويقين، فإن الله ينصره على من ظلمه.
فعجبت لمن ظُلِمَ ودخل معركة حق ضد باطل وأراد النصر كيف لم يلجأ إلى الله وكيف غفل عن قول الله تعالى: ﴿رَبَّنَا ‌أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾

فإن الله تعالى عقبه يقول: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى