صالح ظاهر يكتب ترامب زعيم البلطجية الدولية ورمز القوة العمياء وتحديات العداله

القوة العمياء وصناعة الفوضى
على مر العقود، انتهجت الولايات المتحدة سياسة الهيمنة العالمية تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنها في الواقع اعتمدت على معايير مزدوجة وتدخلات عسكرية أشعلت الحروب وزعزعت الاستقرار. فمنذ نهاية الحرب الباردة، تحولت واشنطن إلى قوة أحادية تحاول فرض إرادتها على العالم، مستخدمة العقوبات الاقتصادية، والانقلابات السياسية، والتدخلات العسكرية، لتأمين مصالحها الاستراتيجية دون اكتراث بحقوق الشعوب أو سيادتها الوطنية.
مع وصول دونالد ترامب إلى السلطة، بلغ هذا النهج ذروته، حيث تبنى سياسة عدوانية قائمة على الابتزاز والضغط الأقصى، سواء تجاه الخصوم أو حتى الحلفاء. منذ أسبوعه الأول في البيت الأبيض، بدأ باتخاذ قرارات أحادية وصدامية تعكس رؤية سلطوية تنطلق من مبدأ “أمريكا أولًا” على حساب النظام الدولي والتوازنات الإقليمية.
لكن هذا النهج لم يكن سوى امتداد لسياسة أمريكية قديمة، تستند إلى القوة العمياء بدلًا من العدالة، وإلى فرض الهيمنة بدلًا من التعاون الدولي.
تناقضات ترامب بين معاداة المهاجرين وفرض سياسات اللجوء على الآخرين
يُعرف ترامب بتشدده ضد الهجرة والمهاجرين، فقد فرض سياسات صارمة ضد طالبي اللجوء، وأمر بترحيل الآلاف قسرًا، وأغلق الباب أمام اللاجئين، متذرعًا بحماية الأمن القومي والمصلحة الأمريكية. ولكن في تناقض واضح، لم يتردد في فرض سياسة استقبال اللاجئين الفلسطينيين على الدول الأخرى، وكأن حقوق الإنسان لديه مجرد أداة ضغط سياسي يستخدمها متى شاء.
فكيف لرئيس يطارد المهاجرين داخل بلاده، ويفرض عليهم قوانين قاسية، أن يطالب دولًا أخرى بفتح أبوابها أمام اللاجئين؟ إن هذا التناقض يكشف نفاق السياسة الأمريكية في عهد ترامب، حيث يتم استخدام معايير مزدوجة تخدم المصالح الأمريكية على حساب حقوق الشعوب وسيادة الدول الأخرى.
ترامب أكثر من رئيس.. بل تجسيد للهيمنة
لم يكن ترامب مجرد رئيس للولايات المتحدة، بل كان انعكاسًا صارخًا لما يحدث حين تتحول السلطة إلى وسيلة لترسيخ الهيمنة دون رؤية أو مسؤولية. في عهده، لم تعد السياسة الدولية قائمة على التوازن والشراكة، بل أصبحت ساحة للابتزاز والتهديد، حيث تفوقت المصالح الضيقة على مبادئ العدالة. كانت قراراته ترجمة عملية لمنطق القوة الذي يعتمد على التفوق العسكري والاقتصادي كوسيلة لفرض الإرادة، متجاهلًا أن القوة التي لا تستند إلى العدل تحمل في ذاتها بذور فنائها.
البلطجة كنهج سياسي
لم تكن القوة العمياء التي انتهجها ترامب مجرد ممارسات عابرة، بل كانت منهجية متكاملة اعتمدها لإخضاع الدول. انسحب من الاتفاقيات الدولية، فرض عقوبات اقتصادية تعسفية، واستغل النفوذ السياسي لفرض السيطرة حتى على حلفائه.
هذا النهج لم يؤدِ إلا إلى خلق عالم أكثر انقسامًا وأقل استقرارًا. اختفت قيم التعاون، وحلّت مكانها المصالح الضيقة، وكأن العلاقات الدولية تحولت إلى صفقات تجارية لا مكان فيها للمبادئ. لكن ما لم يدركه ترامب هو أن القوة التي تُمارَس دون شراكة تفقد مشروعيتها، وتصبح عبئًا على أصحابها قبل خصومهم.
عواقب القوة العمياء
التاريخ لا يجامل الطغاة، ولكل سلطة حد ترسمه إرادة الشعوب وسيرورة التغيير. مهما بلغ جبروت السلطة، فإن الشعوب تظل قادرة على المقاومة واستعادة حريتها.
لم تفلح سياسات ترامب في إخماد تطلعات الشعوب للحرية، لأنه ببساطة، لا يمكن إطفاء شعلة التحرر بقرارات فردية أو عقوبات جائرة. الحرية ليست صوتًا يمكن إخراسه، بل هي روح متجددة تعيد تشكيل التاريخ كلما حاول الاستبداد طمسها.
نزعة نرجسية وانفصام القيادة
لم يكن ترامب قائدًا يسعى لتحقيق مصالح شعبه، بقدر ما كان نموذجًا فاضحًا للزعامة التي تنحرف عن جوهر القيادة الحقيقي. طغت نرجسيته على قراراته، وساد منطقه الأحادي في الحكم، متجاهلًا أن القيادة لا تُقاس فقط بالسطوة، بل بالحكمة وبعد النظر.
هذا الانفصال بين السلطة والمسؤولية كان له ثمن، ليس فقط على مستوى الولايات المتحدة، بل على المسرح الدولي أيضًا. أصبحت العلاقات بين الدول خاضعة لمعادلات القوة المجردة، بعيدًا عن الدبلوماسية والاحترام المتبادل.
أنصار الاستبداد ومروجو الوهم
في ظل قيادة ترامب، ظهر نوع جديد من السياسيين، أنصار الاستبداد ومروجو الوهم، الذين برروا ممارساته إما جهلًا أو طمعًا، متجاهلين أن الولاء الأعمى للسلطة هو أحد أوجه التواطؤ مع الاستبداد.
لكن، كما يعلمنا التاريخ، هؤلاء لا يصنعون المستقبل. الطغاة قد يجدون دائمًا من يصفق لهم، لكن الشعوب هي التي تكتب الفصل الأخير. الشرعية الحقيقية لا تُستمد من القوة، بل من إرادة الناس، وهذا ما يفشل الطغاة في إدراكه حتى تأتي لحظة سقوطهم.
الدروس من مصير الأولين
منذ فجر التاريخ، لم تصمد أي قوة حاولت فرض إرادتها بالقوة أمام وعي الشعوب. من الإمبراطوريات القديمة إلى الأنظمة الحديثة، النتيجة دائمًا واحدة: القوة التي لا توازنها الحكمة مصيرها الزوال.
ترامب ليس استثناءً.. سياساته القائمة على التسلط والتدخل لن تصمد أمام الشعوب التي ترفض الهيمنة. قد يكون نجح في فرض قوته خلال فترة رئاسته، لكنه لم يستطع تغيير مسار التاريخ.
تمامًا كما سقط النمرود في الزمن الغابر، حينما ظن أنه يملك القوة المطلقة، فإن من يسير على نهجه يلقى المصير ذاته. فالتاريخ يعيد نفسه، والشعوب هي الحكم النهائي.
الشعوب الحَكم النهائي
لا يمكن لأي زعيم، مهما بلغت سطوته، أن يفرض هيمنته إلى الأبد. الشعوب، وليس القادة، هي التي تكتب المستقبل. لم يترك التاريخ ظلمًا بلا رد، ولم تمر هيمنة بلا مقاومة.
قد يكون ترامب حاول تشكيل نظام عالمي قائم على التسلط، لكنه نسي أن الشعوب لا تُحكم بالقوة وحدها. وكما وقفت الشعوب في الماضي ضد الطغاة، ستقف دومًا في وجه كل من يحاول فرض إرادته بالقوة.
الظلم لا يدوم
التاريخ شاهد على أن الطغاة، مهما تجبروا، نهايتهم حتمية. لا يدوم الظلم، ولا تبقى الهيمنة إلى الأبد. العالم سيمضي نحو الحرية، ولن تقف في وجهه قوة عمياء، مهما بلغ نفوذها.
إرادة الشعوب هي التي تعيد رسم ملامح المستقبل، بعيدًا عن التسلط والهيمنة. قد يحاول البعض فرض واقع جديد بالقوة، لكنه لن يكون أكثر من محطة عابرة في رحلة البشرية نحو العدالة.
السيادة والحرية ليستا هبات تُمنح، بل حقوق تُنتزع. وكما سقطت إمبراطوريات الظلم عبر التاريخ، ستبقى الحرية هي القوة الحقيقية التي تعيد التوازن إلى العالم.
د. صالح محمد ظاهر … رئيس منظمة الدرع الدولية
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.